فصل: تفسير الآيات رقم (9- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما ثبت أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدة المتطاولة هو هدى لبني إسرائيل، صادق الوعد والوعيد فيما قضى فيه إليهم من أمرهم وأمر بيت المقدس من ترقية حال من أطاعه وإعلائهم وأخذ من عاداهم ومن تعكيس أحوال العصاة مرة بعد أخرى بتسليط الأعداء عليهم بالقتل والأسر والنهب وتخريب البلاد، تنبيهاً على أن طاعة الله تجلب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية، كما كشف عنه الزمان على ما هو معروف من تواريخ اليهود وغيرها، لاح أن القرآن يزيد عليه في كل معنى حسن وأمر شريف فيما أتى به من الوعود الصادقة، والأحكام المحكمة، والمعاني الفائقة، في النظوم العذبة الرائقة، مع الإعجاز عن الإتيان بآية من مثله لجميع الإنس والجان بنسبة ما زاد المسير المحمدي إلى بيت المقدس- الذي أراه فيه من آياته- على المسير الموسوي الذي آتاه فيه الكتاب، فقال- في جواب من كأنه قال‏:‏ قد علم أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل في مسيرة لقصد محل المسجد الأقصى قيم في الهداية والوعود الصادقة، فما حال الكتاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيرة إليه في ذلك‏؟‏ ‏{‏إن هذا القرءان‏}‏ أي الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس ‏{‏يهدي‏}‏‏.‏

ولما كان صاحب الذوق السليم يجد لحذف الموصوف هزة وروعة، لما يجد من الفخامة بإبهامه لا يجدها عند ذكره وإيضاحه، قال ‏{‏للتي‏}‏ أي للطرائق والأحوال والسنن التي ‏{‏هي أقوم‏}‏ من كل طريقة وسنة وحال دعا إليها كتاب من الكتب السماوية، أما في الصورة فباعتبار ما علا به من البيان، وأما في الوعود فباعتبار العموم لجميع الخلق في الدارين، وأما في الأصول فبتصريف الأمثال وتقريب الوسائل، وحسم مواد الشبه وإيضاح وجوه الدلائل، وأما الفروع فباعتبار الأحسنية تارة في السهولة والخفة، وتارة في غير ذلك- كما هو واضح عند من تأمل ما بين الأمرين‏.‏

ولما انقسم الناس إلى مهتد به وضال، أتبع سبحانه ذلك بيانه، وكان التعبير عن حالهما بالبشرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبشر المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف، ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ يصدقون إيمانهم بأنهم ‏{‏يعملون‏}‏ أي على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم ‏{‏الصالحات‏}‏ من التقوى والإحسان ‏{‏أن لهم‏}‏ أي جزاء لهم في ظاهرهم وبواطنهم ‏{‏أجراً كبيراً *‏}‏ إشارة إلى صلاح هذه الأمة وثباتهم على دينهم وأنه لا يزال أمرهم ظاهراً كما كان إنذار كتاب موسى عليه السلام قومه إشارة إلى إفسادهم وتبديلهم دينهم‏.‏

ولما بشرهم بما لهم في أنفسهم، أتبعه ما لهم في أعدائهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي ويبشر المؤمنين أيضاً بأن ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏ أي لا يتجدد منهم إيمان ‏{‏بالآخرة‏}‏ حقيقة أو مجازاً، المسبب عنه أنهم لا يعملون الصالحات حقيقة لعدم مباشرتها، أو مجازاً ببنائها على غير أساس الإيمان؛ وعبر بالعتاد تهكماً بهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أعتدنا‏}‏ أي أحضرنا وهيأنا ما هو في غاية الطيب والنفاسة والملاءمة على سبيل الوعد الصادق الذي لا يتخلف بوجه، وهو مع ذلك منظور إليه، لعظمتنا ‏{‏لهم‏}‏ من عندنا بواسطة المؤمنين أو بلا واسطة‏.‏

ولما استشرف الأعداء إلى هذا الوعد استشراف المغتبط المسرور، أتاهم في تفسيره بما خلع قلوبهم على طريقة «تحية بينهم ضرب وجيع» وسر قلوب الأولياء سروراً عظيماً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عذاباً أليماً *‏}‏ فإنه لا بشرى لذوي الهمم أعلى ولا أسر من الانتقام من مخالفيهم، فصار فضل الكتاب على الكتاب كفضل الذهاب على الذهاب، وحذف المؤمنين الذين لا يعملون الصالحات، لتمام البشارة بالإشارة إلى أنهم من القلة في هذه الأمة الشريفة بحيث لا يكادون أن يوجدوا‏.‏

ولما ذكر سبحانه ما لكلامه من الدعاء إلى الأقوام، أتبعه ما عليه الإنسان من العوج الداعي له إلى العدول عن التمسك بشرائعه القويمة والإقدام على ما لا فائدة فيه، تنبيهاً على ما يجب عليه من التأني للنظر فيما يدعو إليه نفسه ووزنِه بمعيار الشرع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويدع‏}‏ حذف واوه- الذي هو لام الفعل- خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفه لفظاً في العربية- مشير إلى أنه يدعو بالشر لسفهه وقلة عقله، وهو لا يريد علو الشر عليه- بما أشير إليه بحذف ما معناه عند أهل الله الرفعة والعلو، وإلى أن غاية فعله الهلاك إلى أن يتداركه الله، وقد ذكرت حكم الوقف عليه وعلى أمثاله في سورة القمر ‏{‏الإنسان‏}‏ أي عند الغضب ونحوه على نفسه وعلى من يحبه، لما له من الأنس بنفسه والنسيان لما يصلحه ‏{‏بالشر‏}‏ أي ينادي ربه ويتضرع إليه بسبب إيقاع الشر به ‏{‏دعاءه‏}‏ أي مثل دعائه ‏{‏بالخير‏}‏ أي بحصول الخير له ولمن يحبه؛ ثم نبه على الطبع الذي هو منبع ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان‏}‏ أي هذا النوع بما له من قلة التدبر لاشتغاله بالنظر في عطفيته والأنس بنفسه، كوناً هو مجبول عليه ‏{‏عجولاً *‏}‏ أي مبالغاً في العجلة يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله من غير أن يتأنى فيه تأني المتبصر الذي لا يريد أن يوقع شيئاً إلا في أتم مواقعه، ولذلك يستعجل العذاب لنفسه استهزاء، ولغيره استشفاء؛ والعجلة‏:‏ طلب الشيء في غير وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه، وأما السرعة فهي عمله في أول وقته الذي هو أولى به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما ثبت ما لصفته تعالى من العلو، ولصفة الإنسان من السفول تلاه بما لأفعاله تعالى من الإتقان، ذاكراً ما هو الأقوم من دلائل التوحيد والنبوة في العالمين‏:‏ العلوي والسفلي، ثم ما لأفعال الإنسان من العوج جرياً مع طبعه، أو من الإحسان بتوفيق اللطيف المنان، فقال تعالى مبيناً ما منحهم به من نعم الدنيا بعد ما أنعم عليهم به من نعم الدين‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏الّيل والنهار آيتين‏}‏ دالتين على تمام العلم وشمول القدرة، آية الليل كالآيات المتشابهة، وآية النهار كالمحكمة، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين ‏{‏فمحونا‏}‏ أي بعظمتنا الباهرة ‏{‏آية الّيل‏}‏ بإعدام الضياء فجعلناها لا تبصر بها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏ءاية النهار‏}‏ ولما كانت في غاية الضياء يبصر بها كل من له بصر، أسند الإبصار إليها مبالغة فقال‏:‏ ‏{‏مبصرة‏}‏ أي بالشمس التي جعلها منيرة في نفسها، فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور كما للإنسان- بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله- من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك‏:‏ ثم ذكر بعض المنافع المترتبة على ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا طلباً شديداً ‏{‏فضلاً من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة وبرد هذا أخرى ‏{‏ولتعلموا‏}‏ بفصل هذا من هذا ‏{‏عدد السنين‏}‏ أي من غير حاجة إلى حساب، لأن النيرين يدلان على تحول الحول بمجرد تنقلهما‏.‏

ولما كانا أيضاً يدلان على حساب المطالع والمغارب، والزيادة والنقصان، وغير ذلك من الكوائن، لمن أمعن النظر، وبالغ في الفكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والحساب‏}‏ أي جنسه، فصلناهما لذلك على هذا الوجه المتقن بالزيادة والنقصان، وتغير الأحوال في أوقات معلومة، على نظام لا يختل على طول الزمان مقدار ذرة، ولا ينحل قيس شعرة إلى أن يريد الله خراب العالم وفناء الخلق، فيبيد ذلك كله في أسرع وقت وأقرب زمن، ولولا اختلافهما لاختلطت الأوقات وتعطلت الأمور ‏{‏وكل شيء‏}‏ غيرهما مما تحتاجون إليه في دينكم أو دنياكم ‏{‏فصلناه‏}‏ أي بعظمتنا، وأزلنا ألباسه، وأكد الأمر تنبيهاً عل تمام القدرة، وأنه لا يعجزه شيء يريده، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تفصيلاً *‏}‏ فانظروا بأبصاركم وبصائركم، وتتبعوا في علانياتكم وسرائركم، تجدوا أمراً متقناً ونظاماً محكماً ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ولما كان هذا أمراً دقيقاً جداً، أتبعه ما هو أدق منه وأغرب في القدرة والعلم من تفاصيل أحوال الآدميين، بل كل مكلف بعضها من بعض من قبل أن يخلقهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكل إنسان‏}‏ أي من في طبعه التحرك والاضطراب ‏{‏ألزمناه‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏طائره‏}‏ أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر، ولعله عبر به لأنهم كانوا لا يقدمون ولا يحجمون في المهم من أعمالهم إلا بالطائر فيقولون‏:‏ جرى لفلان الطائر بكذا‏.‏

‏{‏في عنقه‏}‏ أي الذي محل الزين بالقلادة ونحوها، والشين بالغل ونحوه، إلزاماً لا يقدر أن ينفك عن شيء منه كما لا يقدر على الانفكاك عن العنق، وذلك كما ألزمنا بني إسرائيل ما قضينا إليهم في الكتاب، فكان كما قلنا، وهم يعلمون نه من السوء بمكان، فلم يقدروا على الاحتراز منه والانفصال عنه، فلا يمكن أن يظهر في الأبد إلا ما قضى به في الأزل «جف القلم بما هو كائن» ‏{‏ونخرج‏}‏ أي بما لنا من العظمة وشمول العلم وتمام القدرة ‏{‏له يوم القيامة‏}‏ أي الذي لا بد من إيجاده ‏{‏كتاباً‏}‏ بجميع ما عمل ‏{‏يلقاه‏}‏ حال كونه ‏{‏منشوراً *‏}‏ تكتبه حَفَظَتَنا كل يوم، ثم إذا صعدوا قابلوا ما فيه على ما سطرناه قديماً في اللوح المحفوظ فيجدونه كما هو، لا خلاف فيه أصلاً، فإذا لقي كتابه يوم العرض قيل له‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ أنت بنفسك غير ملزم بما يقرأه غيرك ‏{‏كفى‏}‏ وحقق الفاعل بزيادة الباء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بنفسك اليوم‏}‏ أي في جميع هذا اليوم الذي تكشف فيه الستور، وتظهر جميع الأمور ‏{‏عليك حسيباً *‏}‏ أي حاسباً بليغاً، فإنك تعطي القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً، ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاً، ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً، إن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك، فيا لها من قدرة باهرة، وقوة قاهرة، ونصفة ظاهرة‏!‏‏.‏

ولما كان ما مضى، أنتج قطعاً معنى ما قلنا لبني إسرائيل ‏{‏إن أحسنتم‏}‏ الآية، لكل أحد منهم ومن غيرهم، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من اهتدى‏}‏ فتبع الهدى ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ لأن ثوابه لا يتعداه ‏{‏ومن ضل‏}‏ بالإعراض عما أنزلنا من البيان ‏{‏فإنما يضل عليها‏}‏ لأن عقابه عليه، لا يتجاوزه ‏{‏ولا تزر وازرة‏}‏ أي أي وازرة كانت ‏{‏وزر أخرى‏}‏ لتخفف عنها، بل لكل جزاء عمله لا يتعداه إلى غيره، فنثيب من اهتدى ونعذب من ضل ‏{‏وما كنا‏}‏ أي على عظمتنا ‏{‏معذبين‏}‏ أحداً ‏{‏حتى نبعث‏}‏ أي بعثاً يناسب عظمتنا ‏{‏رسولاً *‏}‏ فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه، وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في جميع الأمم كما قال تعالى ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏ فإن دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت، وعمت الأقطار واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام

‏{‏ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏ فإنه يفهم أنهم سمعوه في الملة الأولى فمن بلغته دعوة أحد منهم بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر مستحق للعذاب، فلا تغتر بقول كثير من الناس في نجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار، وأن ما يدحرج الجعل خير منهم- إلى غير ذلك من الأخبار؛ قال الإمام أبو عبد الله الحليمي أحد أجلاء الشافعية وعظماء أئمة الإسلام رضي الله عنهم في أوائل منهاجه في باب من لم تبلغه الدعوة‏:‏ وإنما قلنا‏:‏ إن من كان منهم عاقلاً مميزاً إذا رأى ونظر إلا أنه لا يعتقد ديناً فهو كافر، لأنه وإن لم يكن سمع دعوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء الذين كانوا قبله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آية دعوة كانت إلى الله فترك أن يستدل بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضاً عن الدعوة فكفر- والله أعلم، وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهاً- وما نرى أن ذلك يكون- فإن كان فأمره على الاختلاف- يعني عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل‏.‏ وما قاله الحليمي نقل نحوه عن الإمام الشافعي نفسه رضي الله عنه؛ قال الزركشي في آخر باب الديات من شرحه على المنهاج‏:‏ وقد أشار الشافعي إلى عسر قصور- أي عدم بلوغ- الدعوة حيث قال‏:‏ وما أظن أحداً إلا بلغته الدعوة إلا أن يكون قوم من وراء النهر بكوننا، وقال الدميري‏:‏ وقال الشافعي‏:‏ ولم يبق من لم تبلغه الدعوة‏.‏

ولما أشار إلى عذاب المخالفين، قرر أسبابه وعرف أنها بقدره، وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب، لبناء الأمر على ما يتعارفه ذوو العقول بينهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ أي فنبعث الرسل بأوامرنا ونواهينا، وإذا أردنا أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقيد باتباع رسلنا، وإذا ‏{‏أردنا‏}‏ وإرادتنا لا تكون إلا عظيمة جداً ‏{‏أن نهلك‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏قرية‏}‏ في الزمن المستقبل ‏{‏أمرنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على مخالفتها ‏{‏مترفيها‏}‏ الذين لهم الأمر والنهي بالفسق، أي استدرجناهم بإدرار النعم ودفع النقم على ما يعملون من المعاصي، الذي كان- بكونه سبباً لبطرهم ومخالفتهم- كالأمر بالفسق ‏{‏ففسقوا فيها‏}‏ بعد ما أزال الرسول معاذيرهم بتبليغ الرسالة كما قال تعالى

‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏- أي على ألسنة الرسل- ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ الآية ‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 123‏]‏ وخص المترفين لأن غيرهم لهم تبع، ولأنهم أحق الناس بالشكر وأولى بالانتقام عند الكفر، ويجوز أن يكون‏:‏ أمرناهم بأوامرنا ففسقوا فيها، أي الأوامر بالطاعات التي يعلم قطعاً أن أوامرنا تكون بها ولا تكون بغيرها، لأنا لا نأمر بالفحشاء، وقد جرت العادة بأن المترف عسر الانقياد، لا تكاد تسمح نفسه بأن يصير تابعاً بعدما كان متبوعاً، فعصوا فتبعهم غيرهم لأن الأصاغر تبع للأكابر فأطبقوا على المعصية فأهلكناهم، وقرأ يعقوب‏:‏ آمرنا- بمد الهمزة بمعنى كثرنا، من آمرت الشيء وأمرته فأمر- إذا كثرته، وفي الحديث «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية‏:‏ آمر بنو فلان‏.‏ والكثرة راجعة إلى الأمر الذي هو ضد النهي، فإنه نتيجة العز الذي هو لازم الكثرة، ويجوز أن يكون من المؤامرة، أي أمرناهم بأوامرنا فما امتثلوا وأمرونا بأوامرهم، أي سألونا ما يريدون فأعطيناهم ذلك استدراجاً فأبطرهم نيل الأماني ففسقوا ‏{‏فحق‏}‏ أي وجب وجوباً لا شك في وقوعه ‏{‏عليها القول‏}‏ الذي توعدناهم به على لسان الرسول بمباشرة البعض للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب عليه استحق العقاب ‏{‏فدمرناها‏}‏ أي أهلكناها إهلاكاً شديداً بغتة غير مبالين بها فجعلناها كالمدرة المفتتة، وكان أمرها على عظمتنا هيناً، ولذلك أكد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تدميراً *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما قرر أن هذا شأنه إذا أراد أن يهلك، أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون، ولا يحيط بهم الحد من الأمم، لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب وأهول عند النفس، فكأنه قال‏:‏ كم فعلنا ذلك بالقرى ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم ولا أخذناهم من غير إنذار، بل أرسلنا فيهم وأملينا لهم إلى أن كان ما علمناه في الأزل، وجاء الوقت الذي قدرناه، وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ، ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن، وكانوا أهل الأرض- كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم، وعطف على هذا المقدر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، وبين مدلول «كم» بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من القرون‏}‏ على هذا السنن‏.‏

ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد نوح‏}‏ الذي أنتم ذرية من أنجيناه بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏

ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال‏:‏ كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره‏؟‏ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية‏:‏ ‏{‏وكفى بربك‏}‏ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال ‏{‏بذنوب عباده‏}‏ أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات ‏{‏خبيراً‏}‏ من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين ‏{‏بصيراً *‏}‏ بها، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها، وأما أتم فكم من شخص كنتم ترونه مجتهداً في العبادة، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم‏.‏

ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدينا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصيته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد‏}‏ أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون‏.‏

ولما كان مدار مقصود السورة على الإحسان الذي هو العبادة على المشاهدة، وكان ذلك منافياً لحال من يلتفت إلى الدنيا، عبر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏العاجلة‏}‏ أي فقط ‏{‏عجلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏له فيها‏}‏ أي العاجلة ‏{‏ما نشاء‏}‏ مما يريده لا جميع ما يريده؛ ثم أبدل من «له» قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن نريد‏}‏ أي لا لكل من أراد ذلك، تنبيهاً على أن ذلك بقوتنا لا بقوة ذلك المريد ‏{‏ثم جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏له‏}‏ أي لظاهره وباطنه ‏{‏جهنم‏}‏ أي الدركة النارية التي تلقى بالتجهم من كان يلقى الدنيا وأهلها بالتبسم ‏{‏يصلاها‏}‏ في الآخرة ‏{‏مذموماً‏}‏ أي مفعولاً به الذم، وهو ضد المدح ‏{‏مدحوراً *‏}‏ مدفوعاً مطروداً مبعداً، فينبغي لمريد الدنيا أن لا يزال على حذر لأنه لا ينفك من عذاب الآخرة، فإن لم يعط شيئاً من مناه- كما أشار إليه ‏{‏لمن نريد‏}‏ اجتمع له العذابان كاملين‏:‏ فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أعطى فهو لا يعطي كل ما يريد- بما أشار إليه «ما نشاء»- فيجتمع له عذاب ما منعه منها مع عذاب الآخرة‏.‏

ولما ذكر الجاهل ذكر العالم العامل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة‏}‏ أي مطلق إرادة- بما أشار إليه التجريد ‏{‏من كان‏}‏ ‏{‏وسعى‏}‏ أي وضم إلى نيته العمل بأن سعى ‏{‏لها سعيها‏}‏ أي الذي هو لها، وهو ما كانت جديرة به من العمل بما يرضي الله بما شرعه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا أي سعي كان بما لم يشهد ظاهر الكتاب والسنة، إعلاماً بأن النية لا تنفع إلا مع العمل، إما بالفعل عند التمكن، وإما بالقوة عند عدمه؛ ثم ذكر شرط السعي الذي لا يقبل إلا به، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ أي راسخ في هذا الوصف كما جاء عن بعض السلف‏:‏ من لم يكن له ثلاث لم ينفعه عمله‏:‏ إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب- وتلا هذه الآية، وهذا الرسوخ هو الإحسان الذي يدور عليه مقصود السورة؛ ثم رتب عليه الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة ‏{‏كان‏}‏ أي كوناً لا بد منه ‏{‏سعيهم مشكوراً *‏}‏ أي مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف مع أن بعضهم نفتح عليه أبواب الدنيا كداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ونستعمله فيها بما يحب، وبعضهم نزويها عنه كرامة له لا هواناً، فالحاصل أنها إن وجدت عند الوالي لم تشرفه، وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما الشرف وغيره عند الله بالأعمال‏.‏

ولما أخبر عن نفسه الشريفة بما يشير إلى التوسعة على من يريد من أهل الباطل، أخبر بأنه قضى بذلك في الأزل تفضلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلاًّ‏}‏ أي من الفريقين‏:‏ مريد الدنيا ومريد الآخرة ‏{‏نمد‏}‏ أي بالعطاء؛ ثم أبدل من ‏{‏كلاًّ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الذين طلبوا الدنيا نمد ‏{‏وهؤلاء‏}‏ الذين طلبوا الآخرة نمد ‏{‏من عطاء ربك‏}‏ أي المحسن إليه بجميع قضائه، إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لهو ولعب، وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه ويعلي كلمته ‏{‏وما كان عطاء ربك‏}‏ أي الموجد لك المدبر لأمرك ‏{‏محظوراً *‏}‏ أي ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر، بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً، ولم يكن لهم شغل سوى ذلك، لأعياهم ولم يقدروا عليه، فسبحان الجواد الواسع المعطي المانع، ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا، فقال تعالى آمراً بالاعتبار‏:‏ ‏{‏انظر‏}‏ وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كيف فضلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة القاهرة ‏{‏بعضهم على بعض‏}‏ في هذه الحياة الدنيا بالعطاء، فصار الفاضل يسخر المفضول، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه، مع أن رزق الله- وهوعطاءه- بالنسبة إلى الكل على حد سواء، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك، وهو من تنزه عن النقص وحاز على كمال، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه‏.‏

ولما نبه على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته، أخبر أن ما بعد الموت كله كذلك من غير فرق فقال‏:‏ ‏{‏وللآخرة‏}‏ أكد الإخبار عما فيها المستلزم لتأكيد الإعلام بوجودها لهم من إنكاره ‏{‏أكبر درجات‏}‏ من هذه الحياة الدنيا ‏{‏وأكبر تفضيلاً *‏}‏ أولاً بالجنة والنار أنفسهما، وثانياً بالدرجات في الجنة والدركات في النار؛ ولما كان العلم هنا مقيداً بالذنوب، ذكر بعد المفاضلة في الدنيا، ولعل في ذلك إشارة إلى أن أكثر من يزاد في الدنيا تكون زيادته نقصاً من آخرته بسبب ذنب اكتسبه أو تقصير ارتكبه، ولما كان العلم فيما يأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك أعلم‏}‏ مطلقاً، طوى بعده الرذائل، وعطف على ذلك المطوي الفضائل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فضلنا بعض، النبيين على بعض‏}‏ الآية، فمن كانت له نفس أبيه وهمة علية كان عليه أن يزهد في علو فانٍ لأجل العلو الباقي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما تقرر بما مضى أن له سبحانه الأمر كله، وأنه متصف بجميع الكمال منزه عن شوائب النقص، أنتج أنه لا إله غيره، فقال تعالى يخاطب الرأس لأن ذلك أوقع في أنفس الأتباع، وإشارة إلى أنه لا يوحده حق توحيده سواه، ويجوز أن يكون خطاباً عاماً لكل من يصح أن يخاطب به‏:‏ ‏{‏لا تجعل مع الله‏}‏ الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏إلهاً‏}‏ وسيأتي قريباً سر قوله‏:‏ ‏{‏ءاخر‏}‏ أنه مفهوم من المعية ‏{‏فتقعد‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي تصير في الدنيا قبل الآخرة ‏{‏مذموماً‏}‏‏.‏

ولما كان الذم قد يحتمله بعض الناس مع بلوغ الأمل، بين أنه مع الخيبة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مخذولاً *‏}‏ أي غير منصور فيما أردته من غير أن يغني عنك أحد بشفاعة أو غيرها‏.‏ ولما قرع الأسماع بهذا النهي المحتم لتوحيده، أتبعه الإخبار بالأمر بذلك جمعاً في ذلك بين صريحي الأمر والنهي تصريحاً بعد التنزيه له عن الشريك بالإفراد له في العبادة في أسلوب الخبر، إعلاماً بعظم المقام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى‏}‏ أي نهاك عن ذلك وأمر ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك أمراً حتماً مقطوعاً به ماضياً لا يحتمل النزاع؛ ثم فسر هذا الأمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا‏}‏ أي أنت وجميع أهل دعوتك، وهم جميع الخلق ‏{‏إلا إياه‏}‏ فإن ذلك هو الإحسان‏.‏

ولما أمر بمعرفة الحق المحسن المطلق منبهاً على وجوب ذلك باسم الرب، أتبعه الأمر بمعرفة الحق لأول المربين من الخلق فقال‏:‏ ‏{‏وبالوالدين‏}‏ أي وأحسنوا، أي أوقعوا الإحسان بهما ‏{‏إحساناً‏}‏ بالإتباع في الحق إن كانا حنيفين شاكرين لأنعمه كإبراهيم ونوح عليهما السلام فإن ذلك يزيد في حسناتهما، وبالبراءة منهما في الباطل فإن ذلك يخفف من وزرهما واللطف بهما ما لم يجر إلى فساد ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏.‏

ولما كان سبحانه عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إما‏}‏ مؤكداً بإدخال «ما» على الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الأبوين ‏{‏يبلغن عندك‏}‏ أي بأن يضطر إليك فلا يكون لهما كافل غيرك ‏{‏الكبر‏}‏ ونفى كل احتمال يتعلق به المتعنت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحدهما أو كلاهما‏}‏ فيعجزا بحيث يكونان في كفالتك ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ أي لا تتضجر منهما، وفي سورة الأحقاف ما ينفع كثيراً هنا؛ ثم صرح بما ينهى عنه الكلام من باب الأولى تعظيماً للمقام فقال‏:‏ ‏{‏ولا تنهرهما‏}‏ فيما لا ترضاه؛ والنهر‏:‏ زجر بإغلاظ وصياح‏.‏ وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي رحمه الله في كتابه في أصول الفقه‏:‏ وقد أولع الأصوليون بأن يذكروا في جملة هذا الباب- أي باب الاستدلال بالملزوم على اللازم والأدنى على الأعلى- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقل لهما أف‏}‏ بناء على أن التأفيف عندهم أقل شيء يعق به الأب، وذلك حائد عن سنن البيان ووجه الحكمة، لأنه ليس في العقوق شيء أشد من التأفيف لأنه إنما يقال للمستقذر المسترذل، ولذلك عطف عليه ‏{‏ولا تنهرهما‏}‏ لأنه لا يلزم منه لزوم سواء ولا لزوم أحرى، ولا يصلح فيما يقع أدنى أن يعطف عليه ما يلزمه سواء أو أحرى، كما لو قال قائل‏:‏ من يعمل ذرة خيراً يره، ومن يعمل قيراطاً يره، لم يصلح عطفه عليه لإفادة الأول إياه، ولعل ذلك شيء وهل فيه واهل فسلك إثره من غير اعتبار لقوله- انتهى‏.‏

ولما نهاه عن عقوقهما تقديماً لما تدرأ به المفسدة، أمره ببرهما جلباً للمصلحة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقل لهما‏}‏ أي بدل النهر وغيره ‏{‏قولاً كريماً *‏}‏ أي حسناً جميلاً يرضاه الله ورسوله مع ما يظهر فيه من اللين والرقة والشفقة وجبر الخاطر وبسط النفس، كما يقتضيه حسن الأدب وجميل المروءة، ومن ذلك أنك لا تدعوهما بأسمائهما، بل بيا أبتاه ويا أمتاه- ونحو هذا ‏{‏واخفض لهما‏}‏ ولما كان الطائر يخفض جناحه عند الذل، استعار لتعطفه عليهما رعياً لحقوقهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جناح الذل‏}‏ أي جناح ذلّك، وبين المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الرحمة‏}‏ أي لا من أجل امتثال الأمر والنواهي وما تقدم لهما من من أجل الرحمة لهما، بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وما تقدم لهما من الإحسان إليك، فصارا مفتقرين إليك وقد كنت أفقر خلق الله إليهما، حتى يصير ذلك خلقاً لازماً لك فإن النفس لأمارة بالسوء، وإن لم تقد إلى الخير بأنواع الإرغاب والإرهاب والإمعان في النظر في حقائق الأمور وعجائب المقدور، ولذلك أتبعه قوله تعالى آمراً بأن لا يكتفي برحمته التي لا بقاء لها، فإن ذلك لا يكافئ حقهما بل يطلب لهما الرحمة الباقية‏:‏ ‏{‏وقل رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ بعطفهما عليّ حتى ربياني وكانا يقدماني على أنفسهما ‏{‏ارحمهما‏}‏ بكرمك برحمتك الباقية وجودك كما رحمتهما أنا برحمتي القاصرة مع بخلي وما فيّ من طبع اللوم ‏{‏كما ربياني‏}‏ برحمتهما لي ‏{‏صغيراً *‏}‏ وهذا مخصوص بالمسلمين بآية ‏{‏ما كان للنبي‏}‏ لا منسوخ، ولقد أبلغ سبحانه في الإيصاء بهما حيث بدأه بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمه في سلكه، وختمه بالتضرع في نجاتهما، جزاء على فعلهما وشكراً لهما، وضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى شيء من امتهانهما، مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يدخل الصبر إليها في حد الاستطاعة إلا بتدريب كبير‏.‏

ولما كان ذلك عسراً جداً حذر من التهاون به بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم في الحقيقة، فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك ‏{‏أعلم‏}‏ أي منكم ‏{‏بما في نفوسكم‏}‏ من قصد البر بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن، فإن ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما ‏{‏إن تكونوا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لكم ‏{‏صالحين‏}‏ أي متقين أو محسنين في نفس الأمر؛ والصلاح‏:‏ استقامة الفعل على ما يدعو إليعه الدليل، وأشار إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بهد فرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه كان للأوابين‏}‏ أي الرجاعين إلى الخير مرة إثر مرة بعد جماع أنفسهم عنه ‏{‏غفوراً *‏}‏ أي بالغ الستر، تنبيهاً لمن وقع منه تقصير، فرجع عنه على أنه مغفور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما حث على الإحسان إليهما بالخصوص، عم بالأمر به لكل ذي رحم وغيره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وءات ذا القربى‏}‏ من جهة الأب أو الأم وإن بعد ‏{‏حقه و‏}‏ آت ‏{‏المسكين‏}‏ وإن لم يكن قريباً ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر المنقطع عن ماله لتكون متقياً محسناً‏.‏

ولما رغب في البذل، وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط، أتبع ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبذر‏}‏ بتفريق المال سرفاً، وهو بذله فيما لا ينبغي، وفي قوله ‏{‏تبذيراً *‏}‏ تنبيه على أن الارتقاء نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير؛ والتبذير‏:‏ بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك، وقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التبذير فقال‏:‏ إنفاق المال من غير حقه، وعن مجاهد رضي الله عنه‏:‏ لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن المبذرين‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏كانوا‏}‏ أي كوناً هم راسخون فيه ‏{‏إخوان الشياطين‏}‏ أي كلهم، البعيدين من الرحمة، المحترقين في اللعنة، فإن فعلهم فعل النار التي هي أغلب أجزائهم، وهو إحراق ما وصلت إليه لنفع وغير نفع، فإذا لم يجدوا أخذوا ما ليس لهم، والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم وتابع أمرهم‏:‏ هو أخوهم‏.‏

ولما كان الاقتصاد أدعى إلى الشكر، والتبذير أقود إلى الكفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الشيطان‏}‏ أي هذا الجنس البعيد من كل خير، المحترق من كل شر ‏{‏لربه‏}‏ أي الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته ‏{‏كفوراً *‏}‏ أي ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة، ونعمه الباهرة، مع الحجة‏.‏

ولما أمر بما هو الأولى في حالة الوجدان، أمر بمثل ذلك حالة العدم، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه ينبغي أن يكون الإعراض عنهم في حيز الاستبعاد والاستنكار‏:‏ ‏{‏وإما تعرضن عنهم‏}‏ أي عن جميع من تقدم ممن أمرت بالبذل له، لأمر اضطرك إلى ذلك لا بد لك منه، لكونك لا تجد ما تعطيه، فأعرضت حياء لا لإرادة المنع، بل ‏{‏ابتغاء‏}‏ أي طلب ‏{‏رحمة‏}‏ أي إكرام وسعة ‏{‏من ربك‏}‏ الكثير الإحسان ‏{‏ترجوها‏}‏ فإذا أتتك واسيتهم فيها ‏{‏فقل لهم‏}‏ في حالة الإعراض ‏{‏قولاً ميسوراً *‏}‏ أي ذا يسر يشرح صدورهم، ويبسط رجاءهم، لأن ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين الذين أنا معهم؛ قال أبو حيان‏:‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال‏:‏ يرزقنا الله وإياكم من فضله- انتهى‏.‏

وقد وضع هنا الابتغاء موضع الفقر لأنه سببه، فوضع المسبب موضع السبب‏.‏

ولما أمر بالجود الذي هو لازم الكرم، نهى عن البخل الذي هو لازم اللوم، في سياق ينفر منه ومن الإسراف، فقال ممثلاً بادئاً بمثال الشح‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك‏}‏ بالبخل ‏{‏مغلولة‏}‏ أي كأنها بالمنع مشدودة بالغل ‏{‏إلى عنقك‏}‏ لا تستطيع مدها ‏{‏ولا تبسطها‏}‏ بالبذل ‏{‏كل البسط‏}‏ فتبذر ‏{‏فتقعد‏}‏ أي توجد كالمقعد، بالقبض ‏{‏ملوماً‏}‏ أي بليغ الرسوخ فيما تلام بسببه عند الله، لأن ذلك مما نهى عنه، وعند الناس، وبالبسط ‏{‏محسوراً *‏}‏ منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به وانحساره عنك، وكل من الحالتين مجاوز لحد الاعتدال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما كان سبب البخل خوف الفقر، وسبب البسط محبة إغناء المعطي، قال مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة عن التوسعة على من يسأله بأن ذلك إنما هو لتربية العباد بما يصلحهم، لا لهوان بالمضيق عليه، ولا لإكرام للمسوع عليه‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ البسط له دون غيره ‏{‏ويقدر‏}‏ أي يضيق كذلك سواء قبض يده أو بسطها ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ ولكنه تعالى لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عنه أقصى مكروهه، فاستنوا في إنفاقكم على عباده بسنته في الاقتصاد ‏{‏إنه كان‏}‏ أي كوناً هو في غاية المكنة ‏{‏بعباده خبيراً‏}‏ أي بالغ الخبر ‏{‏بصيراً *‏}‏ أي بالغ البصر بما يكون من كل القبض والبسط لهم مصلحة أو مفسدة‏.‏

ولما أتم سبحانه ما أراد من الوصية بالأصول وما تبع ذلك، وختمه بما قرر من أن قبض الرزق وبسطه منه من غير أن ينفع في ذلك حيلة، أوصاهم بالفروع، لكونهم في غاية الضعف وكانوا يقتلون بناتهم خوف الفقر، وكان اسم البنت قد صار عندهم لطول ما استهجنوه موجباً للقسوة، فقال في النهي عن ذلك مواجهاً لهم، إعلاماً ببعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن هذا الخلق قبل الإسلام وبعده‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏ معبراً بلفظ الولد هو داعية إلى الحنو والعطف ‏{‏خشية إملاق‏}‏ أي فقر متوقع لم يقع بعد؛ ثم وصل بذلك استئنافاً قوله‏:‏ ‏{‏نحن نرزقهم وإياكم‏}‏ مقدماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم غير حاصل في حال القتل، بخلاف آية الأنعام فإن سياقها يدل على أن الإملاق حاصل عند القتل، والقتل للعجز عن الإنفاق، ثم علل ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن قتلهم‏}‏ أي مطلقاً لهذا أو غيره ‏{‏كان خطأً‏}‏ أي إثماً ‏{‏كبيراً *‏}‏ قال الرماني‏:‏ والخطأ- أي بكسر ثم سكون- لا يكون إلا تعمداً إلى خلاف الصواب، والخطأ- أي محركاً- قد يكون من غير تعمد‏.‏

ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل، وفي فعل الزنا داعٍ من الإسراف، أتبعه به فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا‏}‏ أي أدنى قرب بفعل شيء من مقدماته ولو بإخطاره بالخاطر ‏{‏الزنى‏}‏ مع أن السبب الغالب في فعل النساء له الحاجة وطلب التزيد، وفيه معنى قتل الولد بتضييع نسبه، وفيه تسبب في إيجاد نفس الباطل، كما أن القتل تسبب في إعدامها بالباطل، وعبر بالقربان تعظيماً له لما فيه من المفاسد الجارّة إلى الفتن بالقتل وغيره؛ ثم علله بقوله مؤكداً إبلاغاً في التنفير عنه لما للنفس من شدة الداعية إليه‏:‏ ‏{‏إنه كان‏}‏ أي كوناً لا ينفك عنه ‏{‏فاحشة‏}‏ أي زائدة القبح، وقد نهاكم عن الفحشاء في آية العدل والإحسان ‏{‏وساء‏}‏ الزنا ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي ما أسوأه من طريق‏!‏ والتعبير عنه بالسبيل يدل على كثرة متعاطيه بالدلالة على سعة منهجه‏.‏

ولما أتم النهي عن هذين الأمرين المتحدين في وصف الفحش وفي السبب على تقدير، وفي إهلاك الولد بالقتل وما في معناه، أتبعهما مطلق القتل الذي من أسبابه تحصيل المال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس‏}‏ أي بسبب ما جعل خالقها لها من النفاسة ‏{‏التي حرم الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله بالإسلام أو العهد ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي بأمر يحل الله به تلك الحرمة التي كانت، فصارت الأسباب المنهي عنها بتحريم مسبباتها منع الموجود بخلاً ثم بذله إسرافاً ثم تحصيل المفقود بغياً؛ ثم عطف على ما أفهم السياق تقديره وهو‏:‏ فمن قتل نفساً بغير حق فقد عصى الله ورسوله ‏{‏ومن قتل‏}‏ أي وقع قتله من أيّ قاتل كان ‏{‏مظلوماً‏}‏ أي بأيّ ظلم كان، من غير أن يرتكب إحدى ثلاث‏:‏ الكفر، والزنا بعد الإحصان، وقتل المؤمن عمداً، عدواناً ‏{‏فقد جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لوليه‏}‏ أي سواء كان قريباً أو سلطاناً ‏{‏سلطاناً‏}‏ أي أمراً متسلطاً ‏{‏فلا يسرف‏}‏ الولي، أو فلا تسرف أيها الولي ‏{‏في القتل‏}‏ بقتل غير القاتل، ولا يزد على حقه بوجه ‏{‏إنه‏}‏ أي القتيل ‏{‏كان منصوراً *‏}‏ في الدنيا بما جبل الله في الطباع من فحش القتل، وكراهة كل أحد له، وبغض القاتل والنفرة منه، والأخذ على يده، وفي الآخرة بأخذ حقه منه من غير ظلم ولا غفلة، فمن وثق بذلك ترك الإسراف، فإنه لخوف الفوت أو للتخويف من العود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

ولما نهى عن الإغارة على الأرواح والأبضاع التي هي سببها، أتبعه النهي عن نهب ما هو عديلها، لأن به قوامها، وهو الأموال، وبدأ بأحق ذلك بالنهي لشدة الطمع فيه لضعف مالكه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا‏}‏ أي فضلاً عن أن تأكلوا ‏{‏مال اليتيم‏}‏ فعبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام ‏{‏إلا بالتي هي أحسن‏}‏ من طرائق القربان، وهو التصرف فيه بالغبطة تثميراً لليتيم ‏{‏حتى يبلغ‏}‏ اليتيم ‏{‏أشده‏}‏ وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه‏.‏

ولما كانت الوصية نوعاً من أنواع العهد، أمر بوفاء ما هو أعم منها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا‏}‏ أي أوقعوا هذا الجنس في الزمان والمكان، وكل ما يتوقف عليه الأمر المعاهد عليه ويتعلق به ‏{‏بالعهد‏}‏ أي بسببه ليتحقق الوفاء به ولا يحصل فيه نقص ما، وهو العقد الذي يقدم للتوثق‏.‏

ولما كان العلم بالنكث والوفاء متحققاً، كان العهد نفسه كأنه هو المسؤول عن ذلك، فيكون رقيباً على الفاعل به، فقال تعالى مرهباً من المخالفة‏:‏ ‏{‏إن العهد كان‏}‏ أي كوناً مؤكداً عنه ‏{‏مسؤولاً *‏}‏ أي عن كل من عاهد هل وفى به‏؟‏ أو مسؤولاً عنه من كل من يتأتى منه السؤال‏.‏

ولما كان التقدير بالكيل أو الوزن من جملة الأمانات الخفية كالتصرف لليتيم، وكان الائتمان عليه كالمعهود فيه، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل‏}‏ أي نفسه فإنه أمر محسوس لا يقع فيه إلباس واشتباه؛ ولما كان صالحاً لمن أعطى ومن أخذ، قال‏:‏ ‏{‏إذا كلتم‏}‏ أي لغيركم، فإن اكتلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم توفوا الكيل ‏{‏وزنوا‏}‏ أي وزناً متلبساً ‏{‏بالقسطاس‏}‏ أي ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين، وزاد في تأكيد معناه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏المستقيم‏}‏ دون شيء من الحيف على ما مضى في الكيل سواء ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة الذي أمرناكم به ‏{‏خير‏}‏ لكم في الدنيا والآخرة وإن تراءى لكم أن غيره خير ‏{‏وأحسن تأويلاً *‏}‏ أي عاقبة في الدارين، وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع، وأفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة لإرخاء العنان، أي على تقدير أن يكون في كل منهما خير، فهذا الذي أزيد خيراً والعاقل لا ينبغي أن يرضى لنفسه بالدون‏.‏

ولما كان ذلك مما تشهد القلوب بحسنه، وأضداده مما تتحقق النفوس قبحه، لأن الله تعالى جبل الإنسان على ذلك كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «البر ما سكن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون وأفتوك» وقال‏:‏ «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى‏:‏ إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» وكان قد جمع الضمائر سبحانه، تلاه سبحانه بما يعمه وغيره فقال تعالى مفرداً الضمير ليصوب النهي إلى كل من الجمع والإفراد في حالتي الاجتماع والانفراد على حد سواء‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي افعلوا ما أمرتم به من ذلك، وانتهوا عما نهيتم عنه منه، لما تقرر في الجبلات من العلم الضروري بخيريته وحسنه، ولا ‏{‏تقف‏}‏ أي تتبع أيها الإنسان مجتهداً بتتبع الآثار ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ من ذلك وغيره، كل شيء بحسبه، لا سيما البهت والقذف، فما كان المطلوب فيه القطع لم يقنع فيه بدونه، وما اكتفى فيه بالظن وقف عنده؛ ثم علل ذلك مخوفاً بقوله‏:‏ ‏{‏إن السمع والبصر‏}‏ وهما طريقا الإدراك ‏{‏والفؤاد‏}‏ الذي هو آلة الإدراك؛ ثم هوّل الأمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل أولئك‏}‏ أي هذه الأشياء العظيمة، العالية المنافع، البديعة التكوين، وأولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقوله‏:‏

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

‏{‏كان‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏عنه‏}‏ أي وحده ‏{‏مسؤولاً *‏}‏ بسؤال يخصه، هل استعمله صاحبه في طلب العلم مجتهداً في ذلك، ليعمل عند الوقوف على الحقائق بما يرضي الله، ويجتنب ما يسخطه أو لا‏؟‏ وأول حديث النفس السابح ثم الخاطر ثم الإرادة والعزيمة، فيؤاخذ بالإرادة والعزيمة لدخولهما تحت الاختيار فيتعلق بهما التكليف، ولعدم دخول الأولين خفف عنا بعدم المؤاخذة بهما، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل به أو تكلم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمش‏}‏ أي مشياً ما، وحقق المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ أي جنسها ‏{‏مرحاً‏}‏ وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق، ولذلك علله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك لن تخرق‏}‏ أي ولو بأدنى الوجوه ‏{‏الأرض‏}‏ أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها ‏{‏ولن تبلغ‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏الجبال طولاً *‏}‏ أي طول الجبال كلها بالسير فيها، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر‏؟‏ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر‏؟‏ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل؛ ثم عظم جميع ما مضى من المنهيات وأضداد المأمورات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل ذلك‏}‏ أي الأمر البعيد من المكارم ‏{‏كان‏}‏ أي كوناً غير مزايل‏.‏

ولما كانت السيئة قد صارت في حكم الأسماء كالإثم والذنب وزال عنها حكم الصفات، حملها على المذكر ووصفها به فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سيئه‏}‏ وزاد بشاعته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ أي المحسن إليك إحساناً لا ينبغي أن يقابل عليه إلا بالشكر ‏{‏مكروهاً *‏}‏ أي يعامله معاملة المكروه من النهي عنه والذم لفاعله والعقاب، والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه حياء منه، فإن لم يكن فخوفاً من قطع إحسانه، وخضوعاً لعز سلطانه، ويجوز أن يكون المراد بهذا الإفراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى أنه لا يقدر أحد غيره على امتثال هذا المعنى على ما ينبغي، لأنه لا يعلم أحد العلم على ما هو عليه سواء، ولأن الرأس إذا خوطب بشيء كان الأتباع له أقبل وبه أعنى‏.‏

ولما تمت هذه الأوامر والزواجر على هذا الوجه الأحكم والنظام الأقوم، أشار إلى عظيم شأنه ومحكم إتقانه بقوله على طريق الاستئناف، تنبيهاً للسامع على أن يسأل عنه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي جداً ‏{‏مما أوحى‏}‏ أي بعث في خفية ‏{‏إليك ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏من الحكمة‏}‏ التي لا يستطاع نقضها ولا الإتيان بمثلها من الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر، ومن حكمة هذه الأشياء المشار إليها من الأوامر والنواهي أنها لم تقبل النسخ في شريعة من الشرائع، بل كانت هكذا في كل ملة‏.‏

ولما بين أن الجهل سبب لكل سوء، وكان الشرك أعظم جهل، أتبعه- ليكون النهي عنه بدءاً وختاماً، دلالة على فرط شناعته عطفاً على ما مضى من النواهي- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعل‏}‏ أو يقدر له ما يعطف عليه نحو‏:‏ فالزمه ولا تجعل ‏{‏مع الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ‏{‏إلهاً‏}‏‏.‏

ولما كانوا لتعنتهم ربما جعلوا تعداد الأسماء تعداداً للمسميات كما ورد في سبب نزول ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ قال تعالى مع إفهام المعية للغيرية‏:‏ ‏{‏ءاخر‏}‏ فإن ذلك أعظم الجهل الذي نهى عن قفوه ‏{‏فتلقى‏}‏ أي فيفعل بك في الآخرة في الحبس ‏{‏في جهنم‏}‏ من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عالٍ، حال كونك ‏{‏ملوماً‏}‏ أي معنفاً على ما فعلت بعد الذم ‏{‏مدحوراً *‏}‏ أي مطروداً بعد الخذلان، فهذان الوصفان أشنع من وصفي الذم والخذلان في الآية الأولى كما هي سنته تعالى أن يبدأ بالأخف تسليكاً لعباده، وإنما كان الشرك أجهل الجهل لأن من الواضح أن الإله لا يكون إلا واحداً بالذات فلا ينقسم، وبالاعتبار فلا يجانس؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها ‏{‏لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر‏}‏ وهي عشر آيات في التوراة، جعل فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء، وحك بيافوخه السماء، ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم‏.‏

ولما كان ادعاءهم أن الملائكة بنات الله ادعاء لأن له مناسباً ومجانساً في أخص الصفات وهي الإلهية، وكانت عبادتهم لهم تحقيقاً لذلك، وكان ذلك أزيد من مجرد الشرك في الجهل، ساقه مساق التقريع والتوبيخ تنبيهاً على ظهور فساده متصلاً بما مضى من النهي عن الشرك بالعطف بفاء السبب على ‏{‏ما‏}‏ بعد الاستئناف بهمزة الإنكار، فكان كأنه قيل‏:‏ لا تفعل ذلك كما فعل هؤلاء الذين أفرطوا في الجهل فنسبوا إليه من خلقه أدنى الجزءين كما تقدم في النحل في قوله تعالى ‏{‏ويجعلون لله البنات‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 54‏]‏ ثم عبدوا ذلك الجزء وهم لا يرضونه لأنفسهم؛ ثم التفت إليهم مخاطباً بما دل على تناهي الغضب فقال‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم‏}‏ أي أخلق المحسن إليكم بنين وبنات فأصفاكم إحساناً إليكم وأنتم تكفرون به ‏{‏بالبنين‏}‏ الذين هم أفضل صنفي الأولاد، ‏{‏و‏}‏ لم يحسن إلى نفسه بأن شارككم في البنين، بل ‏{‏اتخذ‏}‏ عبر بالافتعال لأن من عدل إلى أحد الصنفين مع التمكن من الآخر لا يكون إلا شديد الرغبة فيما عدل إليه ‏{‏من الملائكة‏}‏ الذين هم أقرب عباده أولاداً، ثم ما كفاه نقص الولدية ومعالجة أسبابها حتى جعل ما اتخذه ‏{‏إناثاً‏}‏ فرضي لنفسه- وهو إلهكم الخالق الرازق- با لا ترضونه لأنفسكم، ووصلتم في كراهته في بعض الحالات إلى القتل، فصار مشاركاً لكم في البنات مخصصاً لكم دونه بالبنين، وذلك خلاف عادتكم، فإنه العبيد لا يؤثرون بالأجود ويكون الأدون للسادات، وعبر أولاً بالبنين دون الذكور لأن اسم الابن ألذ في السمع، مرض لمن بشر به من غير نظر في العاقبة، وقد يكون أنثى الأفعال، ولأن اسم الذكر مشترك المعنى، وعبر في الثاني بالإناث لإفهام الرخاوة بمدلول اللفظ، ولأنهن بنات بالمعادلة، ويمكن أن تنزل الآية على الاحتباك، فيكون التقدير‏:‏ بالبنين ورضي لنفسه بالبنات، وخصكم في نوعكم الذي هو أضعف ما يكون بالذكور، واتخذ من الملائكة الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة، ولذلك استأنف الإنكار عليهم معظماً لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم لتقولون‏}‏ وأكده لما لهم من التهاون له والاجتراء عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قولاً‏}‏ وزاد في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏عظيماً *‏}‏ أي في الجهل والإفك، عليه وعلى ملائكة الذين لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فتضيفون إليه الأولاد وهم من خصائص الأجسام ثم تفضلون أنفسكم عليه فتجعلون له ما تكرهون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على الإنسان ولم يرجعوا، أشار إلى أن لهم أمثال هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا‏}‏ أي طرقنا تطريقاً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم، والأمثال والأحكام، والحجج والأعلام، في قوالب الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والمحكم والمتشابه- إلى غير ذلك ‏{‏في هذا القرءان‏}‏ من هذه الطرق ما لا غبار عليه، ونوعناه من جهة إلى جهة، ومن مثال إلى مثال؛ والتصريف لغة‏:‏ صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ثم صار كناية عن التبيين- قاله أبو حيان‏.‏

ولما كان ذلك مركوزاً في الطباع، وله في العقول أمثال تبرز عرائسها من خدورها بأدنى التفات من النفس، سمي الوعظ بها تذكيراً بما هو معلوم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليذكروا‏}‏ أي نوعاً من التذكير- بما أشار إليه الإدغام، فإنه سبحانه كريم يرضى باليسير- هذا في قراءة الجماعة، وقرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف إشارة إلى أن جميع ما في القرآن لا يخرج شيء منه عن العقل، بل هو مركوز في الطباع، وله شواهد في الأنفس والآفاق، يستحضرها الإنسان بأدنى إشارة وأيسر تنبيه، إذا أزيل عنها ما سترها عن العقل من الحظوظ والشواغل، وأتبعه قوله تعالى معجباً منهم‏:‏ ‏{‏وما يزيدهم‏}‏ التصريف ‏{‏إلا نفوراً *‏}‏ عن السماع فضلاً عن التذكير، لاعتقادهم أن ذلك ليس ببراهين، بل هو شبه وخيل إلى صرفهم عما هم فيه مما ألفوه وتلقوه عن آبائهم وتمادت عليهم الدهور في اعتقاد كونه حقاً، فكأنه قيل‏:‏ فما يفعل بهم‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم ولا تيأس من رجوع بعضهم‏:‏ ‏{‏لو كان معه‏}‏ أي ربكم الذي تقدم وصفه بالإحسان والتنزيه ‏{‏ءالهة كما يقولون‏}‏ من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد ‏{‏إذاً لابتغوا‏}‏ أي طلبوا طلباً عظيماً ‏{‏إلى ذي العرش‏}‏ أي صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون من فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض، أو ليتخذوا عنده يداً تقربهم إليه، وصرح بالعرش تصويراً لعظمته وتعييناً للمبتغي والمبتغى؛ ثم نزه نفسه تعظيماً عن ذلك وعن كل نقص فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ‏{‏وتعالى‏}‏ أي علا أعظم العلو بصفات الكمال ‏{‏عما يقولون‏}‏ من هذه النقائض التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه فضلاً عن رئيس من رؤسائكم، فكيف بالعلي الأعلى‏!‏ وأتى بالمصدر المجرد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علواً‏}‏ إيذاناً بأن الفعل مجرد في الحقيقة وإن أتى به على صيغة التفاعل إيذاناً بالمبالغة ‏{‏كبيراً *‏}‏ لا تحتمل عقولكم الوقوف على حقيقته ولا تدركون منه أكثر من مفهوم هذا الوصف عندكم بحسب ما تتعارفونه‏:‏

والأمر أعظم من مقالة قائل *** إن رقق البلغاء أو إن فخموا

ثم استأنف بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تسبح‏}‏ أي توقع التنزيه الأعظم ‏{‏له‏}‏ أي الإله الأعظم الذي تقدم وصفه بالجلال والإكرام خاصة ‏{‏السماوات السبع‏}‏ كلها ‏{‏والأرض‏}‏ أيضاً ‏{‏ومن فيهن‏}‏ من ذوي العقول ‏{‏وإن‏}‏ أي وما، وأعرق في النفي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي ذي عقل وغيره ‏{‏إلا يسبح‏}‏ أي ينزه له متلبساً ‏{‏بحمده‏}‏ أي بوصفه بما له من صفات الكمال بما له تعالى في ذلك الشيء من الآيات الدالة على كل من السلب والإيجاب، وهذا تسبيح بلسان المقال ممن يصح منه، وبلسان الحال منه ومن غيره، كما قال الجدار للوتد‏:‏ لم تشقني‏؟‏ فقال‏:‏ سل من يدقني‏.‏ وهو تسبيح من جهات شتى ليسمعها العارفون بسمع الفهم وصفاء الذهن من جهة ذاتها في خلقها ثم في معنى صفتها بحاجتها من جهة حدوثها إلى صانع أحدثها قديم غير مصنوع، ومن جهة إتقانها إلى كونه مدبراً حكيماً، ومن جهة فنائها إلى كونه مع ذلك قادراً مختاراً، قاهراً جباراً- إلى غير ذلك، بخلاف ما لو قصر التسبيح على لسان المقال فإنه يكون من نوع واحد، وأوضح مرشداً إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لا تفقهون‏}‏ دون «تسمعون» ‏{‏تسبيحهم‏}‏ لإعراضكم عن النظر ونفوركم عن سماع الذكر الذي هو أعظم أسبابه، على أن هذا إنما هو بالنسبة لعامة الخلق، وأما الخاصة فإنهم يسمعون تسبيح الجمادات؛ روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فقل الماء فقال‏:‏ اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل‏:‏ فأدخل يده في الإناء وقال‏:‏ حيّ على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وشرف وكرم وبجل وعظم- ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏.‏ وتسبيح الحصى مشهور، وفي زبور داود عليه السلام تكرير كثير لهذه الآية وحث على تأملها، قال في المزمور الثامن والستين‏:‏ تسبح له السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها‏.‏ وفي المزمور الخامس والثمانين‏:‏ فليس مثلك يا ربي وإلهي ولا مثل أعمالك، لأن جميع الأمم الذين خلقت يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويسبحون لاسمك، لأنك عظيم صانع الآيات‏.‏ وفي الثامن والثمانين‏:‏ بذراعك العزيزة فرقت أعداءك، لك السماوات ولك الأرض، أنت أسست الدنيا بكمالها، خلقت البر والبحر، تابور وحرمون باسمك يسبحان، لك القوة والجبروت، تعتز يدك، وتعلو يمينك، بالعدل والحكم أتقنت كرسيك، الرحمة والعدل ينطلقان أمامك، طوبى للشعب الذي يعرف تسبيحك‏.‏

وفي الخامس والتسعين‏:‏ سبحوا الرب تسبيحاً جديداً، الأرض كلها تسبح الرب، اسجدوا للرب في هياكل قدسه لأن جميع الأرض تتزلزل بين يديه، قولوا في الشعوب‏:‏ إن الله هو الملك أتقن الدنيا لكيلا تزول، يقضي بين الشعوب بالعدل، تفرح السماوات وتبتهج الأرض، ينقلب البحر في عمقه، تتهلل البقاع وما فيها، هنالك يسبح جميع شجر الغياض قدام الرب‏.‏ وفي السابع والتسعين‏:‏ ولله تسبح كل الأرض، مجدوا وهللوا وسبحوا الرب‏.‏ وفي الثامن والأربعين بعد المائة‏:‏ سبحوا الرب من السماوات، سبحوه من العلى يا جميع ملائكته‏!‏ وكل جنوده تسبحه، الشمس والقمر يسبحانه، وجميع الكواكب والنور تسبحه، يسبح الرب سماء الدنيا والمياه التي فوق السماوات، تسبح جميعاً اسم الرب لأنه قال فكانوا، وأمر فخلقوا، وأقامهم إلى الأبد والدهر، جعل لها مقدراً لا تتجاوزه، يسبح الرب من في الأرض‏:‏ التنانين وجميع الأعماق، النار والبرد والثلج والجليد والريح العاصفة عملت كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمرة وجميع الأرز، السباع وكل البهائم والوحوش وكل حيوان وكل طائر ذي جناح، ملوك الأرض وسائر الشعوب العظماء وجميع حكام الأرض، الشبان والعذارى والشيوخ والصبيان يسبحون اسم الرب، لأن اسمه قد تعالى وحده‏.‏ وفي الخمسين بعد المائة‏:‏ سبحوا الله في كل قديسيه، سبحوه في جلد قوته، سبحوه كمثل جبروته، سبحوه بكثرة عظمته، سبحوه بصوت القرن، وسبحوه بأصوات عالية، كل نسمة تسبح الرب‏.‏

ولما كان تسبيح جميع المخلوقات أمراً واضح الفهم ظاهر الشأن، فكانوا مستحقين للعقاب في عدم فهمه بعدم التأمل في المصنوعات حق التأمل، نبههم على أن عافيتهم إنما هي لحلمه عنهم، فهو ينظرهم إلى المدة التي ضربها لهم لأنه لا يعجل لتنزهه عن شوائب النقص الذي نطق كل شيء بتنزيهه عنها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان حليماً‏}‏ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على إعراضكم عن صرف الأفكار فيما أمركم بصرفها إليه‏.‏

ولما كان الغالب على أحوال البشر أن حليمهم إذا غضب لا يغفر، وإن عفا كان عفوه مكدراً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏غفوراً *‏}‏ مشيراً بصيغة المبالغة إلى أنه على غير ذلك ترغيباً في التوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما قرر في سياق التوحيد أنهم في الحضيض من الغباوة، التفت إلى سيد أولي الفهم، فقال مشيراً إلى النبوة عاطفاً على ‏{‏لا تفقهون‏}‏ منبهاً على أنهم لا يفهمون لسان القال فضلاً عن لسان الحال‏:‏ ‏{‏وإذا قرأت القرءان‏}‏ الذي لا يدانيه واعظ، ولا يساويه مفهم، وهو تبيان لكل شيء ‏{‏جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بينك‏}‏ وبينهم، ولكنه أظهر هذا المضمر بالوصف المنبه على إعراضهم عن السماع على الوجه المفهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وبين الذين لا يؤمنون‏}‏ أي لا يتجدد لهم إيمان ‏{‏بالآخرة‏}‏ أي التي هي قطب الإيمان ‏{‏حجاباً‏}‏ مالئاً لجميع ما بينك وبينهم مع كونه ساتراً لك عن أن يدركوك حق الإدراك على ما أنت عليه ‏{‏مستوراً *‏}‏ عنهم وعن غيرهم، لا يراه إلا من أردنا، وذلك أبلغ في العظمة وأعجب في نفود الكلمة ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏على قلوبهم أكنة‏}‏ أي أغطية، كراهة ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ أي يفهموا القرآن حق فهمه ‏{‏وفي ءاذانهم وقراً‏}‏ أي شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم السماع النافع بالقصور في إدراكهم لا في بيانه، فرؤيتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال التلاوة غير صحيحة كما أن سمعهم وإدراكهم لما يقرأه كذلك كما قال تعالى ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وإذا ذكرت ربك‏}‏ أي المحسن إليك وإليهم ‏{‏في القرءان‏}‏ حال كونه ‏{‏وحده‏}‏ مع الإعراض عن آلهتهم ‏{‏ولوا‏}‏ وحقق المعنى وصوره بما يزيد في بشاعته تنفيراً عنه فقال‏:‏ ‏{‏على أدبارهم نفوراً *‏}‏ مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنه محصّل لمعناه، أو جمع نافر كقاعد وقعود‏.‏

ومادة «وقر» بجميع تقاليبها عشر تدور على الجمع كما مضى في آخر يوسف وأول الحجر، فالوقر- بالفتح‏:‏ ثقل في الأذن أو ذهاب السمع كله- لأن ذلك يوجب اجتماعاً في النفس وسكوناً يحمل على الوقار الذي هو السكينة بفقد بعض ما كان يشعّب الفكر من السمع، ومن ذلك ذلك الوقر- بالكسر‏:‏ الحمل مطلقاً أو الثقيل، أو لأن الحمل جامع لما فيه والأذن جمعت ما سدها، فكأنه جمع خرقها فصيرها صلداً كالصخرة الصماء لا ينفذ فيها شيء، ولذلك يسمى الطرش الصمم ونخلة موقرة، أي مستجمعة حملاً، واستوقرت الإبل‏:‏ سمنت أي جمعت الشحم واللحم، ووقر كوعد‏:‏ جلس- لاستجماع بعض أعضائه إلى بعض، والوقير‏:‏ القطيع من الغنم أو صغارها أو خمسمائة منها أو عام، أو الغنم بكلبها وحمارها وراعيها كالقرة- لاستجماع بعضها إلى البعض، والوقري- محركة‏:‏ راعي الوقير أو مقتني الشاء وصاحب الحمير وساكنو المصر، والقرة- كعدة‏:‏ العيال والثقل والشيخ الكبير- لأن الكبر والثقل يثمران الوقار الناشئ عن استجماع النفس والعزم وترك الانتشار بالطيش، وما قبلهما واضح في الجمع، والموقر- كمعظم‏:‏ المجرب العاقل قد حنكته الدهور- لأن ذلك يثمر استجماع العقل، ووقرت الرجل توقيراً‏:‏ بجلته ورزنته، والدابة‏:‏ سكنتها- فكان كأنه جمع إليها حمل ثقيل، والتيقور فيعول من الوقار تاءه مبدلة من واو، يقال‏:‏ وقر في بيته يقر، أي جمع نفسه فيه لاجتماع همه، والموقر- كمجلس‏:‏ الموضع السهل عند سفح الجبل- لعله شبه بالرجل الوقور المطمئن الساكن النفس، والحامل الذي يوطئه الحمل، والوقرة‏:‏ وكتة- أي حفرة- تكون في الحافر والعين والحجر- لأن من شأن الحفرة أن تجمع ما تودعه، ومنه توقير الشيء‏:‏ أن تصير له وقرات، أي آثاراً، والوقر‏:‏ الصدع في الساق وكالوكتة أو الهزمة تكون في العظم والحجر والعين، وأوقر الله الدابة‏:‏ أصابها بوقرة، وفقير وقير، أي مكسور العظام أو الفقار، أو تشبيه بصغار الشاء أو اتباع، أو المعنى أن الدين أوقره، والوقير‏:‏ النقرة العظيمة في الصخرة تمسك الماء- وهو واضح في الجمع‏.‏

والروق‏:‏ القرن- لشدة اجتماعه لصلابته واستدارته، ولأنه يجمع إقدام صاحبه وعزمه، والروق أيضاً‏:‏ عزم الرجل وفعاله- لجمعهما أمره، والروق من الليل‏:‏ طائفة- لاجتماع ساعاتها، والروق من البيت‏:‏ رواقه، أي شقته التي دون الشقة العليا- لأنها تكمل جمعه لما يقصد منه من الستر، ورواق البيت- ككتاب وغراب‏.‏ ما أطاف به، قال القزاز‏:‏ وقيل‏:‏ الرواق كالفسطاط يحمل على عمود واحد في وسطه، قال في القاموس‏:‏ أو سقف في مقدم البيت وحاجب العين- ولعله شبه بالستر، ومن الليل‏:‏ مقدمه وجانبه- شبه بجانب البيت، والروق من الشباب‏:‏ أوله كالريق بالفتح، والريق ككيس، وأصله ريوق- لأنه ينبني عليه ما بعده ويجتمع إليه كأنه الأصل الذي يجمع جميع الفروع، والريق أيضاً أن يصيبك من المطر شيء يسير- كأنه أول المطر، والروقة‏:‏ الشيء اليسير، وهي من ذلك، والروق أيضاً‏:‏ العمر- لأنه الجامع للحال، وراقني الشيء‏:‏ أعجبني- لأن الفكر يجمع الخواطر لأجله فلا يظهر له وجه ما صار به معجباً، ووصيف روقة- إذا أعجبك، وجارية روقة وغلمان روقة، جمع رائق، والروقة‏:‏ الشيء الجميل جداً، والروق- بالفتح العجب والإعجاب بالشيء، ومن الخيل‏:‏ الحسن الخلق يعجب الرائي، والجمال الرائق، والريق والروق والرواق‏:‏ الستر- لأنه يجمع البصر والهم عما وراءه، وهو أيضاً موضع الصائد- لأنه يجمعه على ما يريد ويوصله إليه، والروق‏:‏ الرواق ومقدم البيت والشجاع لا يطاق- لاجتماع همه لما يريد، والفسطاط والسيد- لجمع الفضائل، والصافي من الماء وغيره- لأن الصفاء أجدر باجتماع الأجزاء، والروق‏:‏ الجماعة والحب الخالص ومصدر راق عليه، أي زاد عليه فضلاً- لأن الزيادة لا تكون إلا عن جمع، والروق‏:‏ البدن من الشيء- لجمعه له، والحية- لتحويها أي تجمعها، وداهية ذات روقين، أي عظيمة مشبهة بالثور، ورمى بأرواقه على الدابة‏:‏ ركبها، أي بجميع أعضائه، ورمى بأرواقه عنها‏:‏ نزل، وألقى أرواقه‏:‏ عدا فاشتد عدوه- كأنه خرج من جميع أعضائه- فعدا روحاً بلا بدن فصار أعظم من الطائر، أي غلبت روحه على بدنه، وألقى أوراقه‏:‏ أقام بالمكان مطمئناً؛ قال في القاموس‏:‏ كأنه ضد- انتهى‏.‏

والمفعول فيه في هذا محذوف، كأنه قال‏:‏ في مكان كذا، ومن المعلوم أن بدنه إذا كان في مكان وهو حي فقد أقام به، وألقى عليك أرواقه، وهو أن تحبه شديداً، والمعنى أنه ألبسك بدنه فصارت روحك مديرة له فصرت إياه‏.‏ وتعبير القزاز بقوله «وهو أن تحبه حتى تستهلك في حبه» يدل على ذلك، وألقت السحابة أرواقها، أي مطرها ووبلها أو مياهها الصافية- وذلك هو مجموع ما فيها، وأرواق الليل‏:‏ أثناء ظلمته بأرواقه- إذا قام وثبت، وقيل‏:‏ أرواقه‏:‏ مقاديمه، وأسلبت العين أرواقها‏:‏ سالت دموعها، أي جميع ما فيها- كأن ذلك كناية عن اشتداد البكاء، وروق الفرس‏:‏ الذي يمده الفارس من رمحه بين أذنيه- تشبيه له بقرن الثور، وذلك الفرس أروق، ومنه الروق- محركة، وهو طول الأسنان- تشبيهاً لها بالروق أي القرن- قال القزاز‏:‏ وقيل‏:‏ الروق‏:‏ طول الأسنان وانثناءها إلى داخل الفم، وإشراف العليا على السفلى، والقوم روق- إذا كانوا كذلك، وهو يصلح لأن يكون تشبيهاً بما ذكر، ولأن يكون من الجمع من أجل الانثناء، ومنه أكل فلان روقه- إذا أسن فطال عمره حتى تتحات أسنانه- المشبهة بالقرن، والترويق‏:‏ التصفية- وقد تقدم أن الشيء إذا خلص من الأغيار كانت أجزاؤه أشد تلاصقاً، والترويق‏:‏ أن يبيع سلعة ويشتري أجود منها- مشبهة بالتصفية، والراووق‏:‏ المصفاة يروق بها الشراب بلا عصر والكأس بعينها، والباطية وناجود الشراب الذي يروق به- لأنها تجمع الشراب‏.‏

والقرو‏:‏ القصد والتتبع كالاقتراء والاستقراء والطعن وهو واضح في الجمع، والقرو‏:‏ حوض طويل ترده الإبل، وعبارة القزاز‏:‏ شبه حوض ممدود مستطيل إلى جنب الحوض، يفرغ منه في الحوض الأعظم، ترده الإبل والغنم، وكذا إن كان من خشب‏.‏ والقرو‏:‏ الأرض لا تكاد تقطع- كأنها حمت اجتماع أجزائها عن أن يفرقها أحد، والقرو‏:‏ مسيل المعصرة ومثعبها- لاجتماع ما يسيل فيه، وأسفل النخلة ينقر فينتبذ فيه أو يتخذ منه المركن والإجانة للشرب، وقدح أو إناء صغير، وميلغة الكلب، وحق عليه طبق، ومنقع الماء، والعرب تقول‏:‏ أصبحت الأرض قرواً واحداً- إذا كثر الخصب والمطر، وكل ذلك واضح في الجمع، وأن يعظم جلد البيضتين لريح أو ماء، أو نزول الأمعاء كالقروة، وذلك إما لشبههما بالقدح أو لجمعهما ما أوجب كبرهما، وقرّى كفعلى‏:‏ ماء بالبادية- لجمعه الناس، والقرى‏:‏ القرع يؤكل- لأنه صالح لأن يجعل إناء، والقرا‏:‏ الظهر- لجمعه الأعضاء، وناقة قرواء‏:‏ طويلة السنام، والمقروري‏:‏ الطويل الظهر، وأقرى‏:‏ اشتكى- إما أن يكون من شكاية القرا، وإما أن يكون للسلب، أي أزال اجتماع همه وعزمه، والقرواء‏:‏ العادة- لجمعها أهلها، والدبر- لجمعها ما فيها، وأقرى‏:‏ طلب القرى، ولزم القرى، وأقرى الجل على الفرس‏:‏ ألزمه، والمقاري‏:‏ رؤوس الإكام- لأنها تجمع، وتركتهم قرواً واحداً على طريقة واحدّة- أي مجتمعين وشاة مقروة‏:‏ جعل رأسها في خشبة لئلا ترضع نفسها- أي جمع فكاها، وقروة الرأس‏:‏ طرفه، وعبارة القزاز‏:‏ وقروان الرأس وقروة الرأس‏:‏ أعلاه- كأنه مجتمع أمره لأنه موضع المفكرة، وقروة الأنف‏:‏ طرفه- لأنه آخر جامع لجماله، واستقرى الدمل‏:‏ صارت فيه المدة- أي اجتمعت، والقيروان‏:‏ معظم العسكر ومعظم القافلة- وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية المادة في

‏{‏بورقكم هذه‏}‏ في ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏‏.‏